كاد أبي أن يعلّمني ركوب الدّراجة، لحظات من شبه طفولة…
هو يوم من أيام الأسبوع لا أذكر أي يوم بالضبط لكنه كان يوما جميلا ودافئا و رغم أن الشمس كانت ترسل أشعتها الدافئة إلا أنها كانت مستورة من قبل السحب التي كانت تملأ السماء وتحجب الشمس غير أنّها هي الأخرى لم تتوانى في إرسال دفئها و خيوط صفراء منها ما أن ترفع رأسك نحوها تداعبك أشعتها على وجهك ولا تملك الّا أن تغمض عينيك في استسلام لها ولكنّي تنفست بعمق و تخلّلني مزيج بين التّحدي والحماس ، لم يكن الجو وحده هو من يجعلني أشعر بالدفئ والسعادة التي لا توصف بداخلي فقد كنت كلي شوقا وفرحا لتعلم الركوب على الدراجة الهوائية وقد وعدني أبي بأن يساعدني في ذلك وسنخرج مشوارا ليعلّمني بالقرب من أنحاء المنزل حيث اجتمع الكثير من الأطفال الصغار الذين يركبون دراجاتهم الهوائية منهم من يركب دراجة بأربع عجلات للصغار ومنهم من يجيدون ركوب الدراجات الهوائية ويخيطون الشارع ذهابا وإيابا وأنا كلي حماسا لأكون واحدا منهم وكان وجود أبي سوف يدعمني كثيرا… كما ظننت على الأقل…
جاء أبي ولوّح لي من بعيد وقد كنت أركب الدّراجة وفي محاولات بسيطة لأتوازن عليها وأصل فقط على بعد دواستين أو ثلاث وأفقد توازني الذي لم أكن أساسا أحتفظ به من البداية ولكني أحاول وأعاند وأرى من حولي ومن هم بعمري أو أقل يتقنون ذلك فأحيي عزيمتي من جديد، بالمناسبة أنا " عماد " أبلغ من العمر ثمانيّ سنوات… وبينما أنا على هذا الحال أصعد إلى أعلى الشارع وأنا فقط أجر دراجتي تقريبا غالبا وأحيانا أسقط، عندها رأيت أبي و هو يلوّح لي فاعترتني ابتسامة كبيرة بل كدت أضحك فرحا لأن جاء السند والمعلم و رفيقي في مشوار تعلمي ، نزلت من على الدراجة وأمسكت مقودها ورحت أجرها إلى جانبي بأقصى سرعة وأنا في طريقي نحو أبي رحب بي وقال:
" اركب و سأمسك بك من الخلف وندور بها المبنى الذي به منزلنا…"
وفعلت وكان أبي ممسكا بي ولففنا بمنزلنا ربما كثيرا ولكني لم أحس بذلك ولم أنتبه وقد كان أبي يريني كيف أحرك الدواسات في الدورة الثانية فقد كنت أديرها الأولى وأعجز عن إدارة الثانية فتستقرّ الدّواسات في الوسط دون حركة وأسقط و لكنه عندما يدفع أبي بالدارجة قليلا وهو ممسكا بها أستطيع فعلها…
لا أعرف كم بقينا على هذا الحال فكما قلت لكم لم أحس ولم أنتبه للوقت أبدا ولكن أحسست بأشعة الشمس قد غادرت ونسمات برد هادئة تلفح وجهي بين الفينة والأخرى، وفجأة لم أحس إلا وحرارة كبيرة تعتلي جسمي وهو متكئا على أحد جدران المنزل وأرى دراجتي سقطت على بعد خطوات قليلة مني وكانت عجلتها الخلفية مرتفعة قليلا عن الأرض وتدور بهدوء ماثلة إلى التوقف إلى أن توقفت، ثم سمعت صوتا من أعلى يصيح: " أنت لا تعرف شيئا… لا تصلح أن تتعلم مثل هؤلاء… لماذا أنت هكذا؟ "، نعم إنه صوت أبي… رفعت عيناي وقد رأيته يحملق بي رافعا إصبعه السبابة ومشيرا به إلي … أنظر إليه وعيناي قد اغرورقت بالدموع ولكنها تحجرت هناك ولم تنزل دمعة واحدة ولم أعد أستوعب كلامه وقد أمطرني بالسباب والشتم ولم يكن كلامه واضحا أو أنني أنا الذي لم أعي ما يقول فقط من جملة استطعت سماعها بوضوح :" أنت لا تعرف شيئا… لا تصلح أن تتعلم مثل هؤلاء… لماذا أنت هكذا؟ ".
وأتذكّر اللطمة الكبيرة التي أتتني من خلفي على مؤخرة رأسي، فتعود بي الذاكرة إنها يد أبي الكبيرة لطمني بكل عصبية وقد ضاق ذرعا مني ومن تعليمي فأنا لم أتعلم بسرعة نعم لماذا أنا هكذا؟ لماذا لم أتعلم بسرعة؟ لماذا ما أن اعتليت الدراجة لم أنطلق بها بسرعة مثل هؤلاء؟.. لم أعد أستوعب ما أنا فيه فعقلي الصغير لا يملك إجابات لما يدور فيه من تساؤلات…
أتعرفون بما يحس " عماد " يحس أنه خيّب ظنّ والده به وأن به نقص ما عن الآخرين… لم يعرف أنه لم يكن أيضا بالأمر السهل كثيرا على أقرانه لتعلم ركوب الدراجة وأنهم أيضا أخذوا وقتا أطول من لفاته حول المنزل ليتعلموا، والأمر ليس أن تركب الدراجة وتنطلق بكل هذه البساطة…
لكن عصبية والده ونفسه الضيق واحتقاره وانتقاصه لابنه… أوحت للطفل " عماد " أنه أخطأ بشيء ما، وأنه لا يصلح لشيء كما قال له أبوه… فغالبا ما ينظر الطفل لنفسه بأعين والديه… كلما كانوا فخورين به تأكد من أنه فتى جيد والعكس فكلما نظروا إليه باستحقار شعر أنه لا قيمة له حتى وإن لم يمد الأمر له بصلة…
كان الأجدر بوالد " عماد " أن يعامله بلطف وربما يحثه على الراحة على نية إكمال درس التعلم غدا بعد أن يرتاح كل منهما
ربما لم تمروا بموقف الطفل " عماد " ولم تعاملوا أطفالكم بهذه القسوة التي عامله بها والده ولكن هناك أيضا مواقف أخرى وإن بدت لكم بسيطة فهي تأثر بهم… مواقف تجعلهم يحسون بالنقص وأنهم هم المخطئون يترجمون عصبيّتكم عليهم على أنهم لا يصلحون لشيء وأنهم سيئين ولم يستطيعوا أن يكبروا في أعينكم فهذا كل ما ينتظره الطفل وهو يركز على وجه أبويه ليرى نظرة الفخر والتقدير فيهما وهذا ما لم يجده " عماد " على وجه والده.